قصة بقلم :مختار محمود عبد الوهاب
هامش أيمن ...
رفعت يده لأعلى ، وسحبت رأسي منفلتاً ، وقفزت من الفرن إلى البحراية(1) ، وصوت الأطفال يرن في أذني ( استغماية(2) والعرب جاية)، نادت صائحة بدعوى أنه يريدني . أغلقت الباب الكبير خلفي ، حلقة الأطفال لا تستقبلني بحميمية على غير العادة ، شيء ما يبدو في ملامحهم ، كلما اقتربت خفتت أصواتهم وتغامزوا..
- أنا مع مين ؟ ( قلت)
- مانتاش لاعب ( قالها سكر وعقد حاجبيه واستدار يقسم الحلقة فريقين)
- إزاي مش هالعب ؟ ( سألت بانكسار)
- قسمنا خلاص اللى مش في اللعب يطلع برا ... ( صرح بذلك سكر ، ولم يأخذني أحد في فريقه)
تلفت حولي لأجد نفسي الوحيد خارج التقسيم ، أعينهم تأمرني بمغادرة مكان اللعب ، تحركت مبتعدا أراقب شبشبي البلاستيك الأسود (3) الملحوم ببقايا حذاء أمي القديم ، دائما تنصحني بعدم الجري بالشبشب حتى لا يتفسخ ثانية ، فقد تم لحامه بصعوبة في المرة الأولى .... همسهم يأتيني وأنا أبتعد ، على حجر الجير الملقى بجوار الحائط جلستُ ، ومرفقي يرتكز على ركبتي ، ورأسي فوق راحتي اليمنى . غادر الحلقة واقترب مني بخطوات مترددة ، ينظر في عينيّ وينظر خلفه للحلقة ، كلهم ينظرون على خطواته التي تقترب أكثر ، شخصت ببصري إليه ، عاود النظر إلى الحلقة خلفه ، تردد في اقترابه مني أكثر ، ابتلع ريقه
- الواد سكر بيقول أبوك عيان عيا وحش ( قالها كبصقة في وجهي)
لملمت جلبابي استعداداً للانطلاق ، خلعت شبشبي وأدخلت كل فردة في ذراع
- ينعل أبو سكر
والتهمت قدماي الحافيتان المسافة حتى باب دارنا الكبير ، دفعته فاستقبلتني تنتحب وأنا ألهث دخلت ُ في أحضانها ، صدرها يعلو ويهبط بصورة مقلقة ، عرقي يختلط بدموعها الحارة ، ولأول مرة تناديني باسمه .*****************
هامش أيسر ...
عيناها العسليتان بحر من الدموع ، أعلم أنني الوحيد لك ، ربما يصير هذا الصغير رجلا يوما ما ، تحاملت وقلت ( تعال يا ابني جنبي ) يدي ممتدة والصغير يرقبني وهو في مكانه ، دفعته ليقترب مني ، جلس بجانبي متربعاً ، شعره ينساب على جبينه ، ستصير رجلا وتحمل اسمي ، ينفرج فمي عن بسمة ، ابتسمت هي أيضا ومازالت عيناها مغرورقتين ، مسحت على رأسه ، وتذكرته عائدا يدفع الباب الخارجي بعنف ، ويبكي وساعده على وجهه
- الواد سكر ضربني
- سكر ضربك ؟؟ ...
لازم نضربه
- ازاي ؟؟ دا كبير
- الظابط هييجي يمسكه ويوديه السجن
سوف أدعك صغيرا تصارع ، ليتك تسمعني أو تفهمني حين سأوصيك بأمك ، الأنثى مهما قويت أظافرها ضعيفة ، هل ستقدران على البقاء ؟ ، من سوف يحملك ( شربات العسل) وأنت تكرر له (كمان ... كمان ) ؟ وحين يهتز بك تضحك من جوفك ، ومؤخرة شبشبك البلاستيك تدغدغني حين تلامس شعر صدري فأنزعه من قدمك ، فتمد يدك الصغيرة تلقفه سريعاً ،
- بابا .......
- نعم يا سيدي
- هوا الشبشب معمول من إيه ؟
- م البلاستيك
السرطان مرض لم ينج منه أحد بعد ، الدكتور أصر أن الأمل في الله كبير مع يقينه من عدم مرور عام على حالتي .
- يعني إيه براستيك يا بابا ؟
امتدت يدي تسحب يده المتكومة في حجره ، وتقربها من فمي لأقبلها ، وأمسح ثانية على رأسه وأحدج في وجهه المستدير ، ورقبته الطويلة ، وصدره العاري ، وياقة جلبابه المنثنية ، تحولت من النوم على ظهري إلى النوم على جانبي الأيمن وأنا أقول ( يا ليلك الطويل يا ابني ) وتدحرجت دمعة العين اليسرى إلى العين اليمنى فاختلط ماؤهما ، ونظرتْ هي إلى الأرض فتساقطت دموعها كحبات الأرز، رفع يدي من فوق رأسه ، وألقى بها على الوسادة ، وهب واقفا وتدلى برجليه في ( البحراية ) وترك نفسه يسقط ، وهي تناديه .... صورتها أمامي تشحب وتهتز ، صوتها يذهب ، تتحرك أمامي كالشبح ، أود أن أقبل كفيها ، الباب الخارجي صريره يأتي من البعيد البعيد ..... أود أن .........*****************
النص- تعالى يا ابني جنبي .
- روح لابوك يا حسن!
- يا ليلك الطويل يا ابني.
- ما تقولش كدا يا حسنين ، ربنا يديلك طولة العمر
- آآآآآآآآآآه- ربنا يشيل عنك
- الله كريم
- يا حسن خد كلم أبوك
- تك تك تك تك ...........تااااااااااااااااك
- يا حسنين ....... يا حسنين .......... يا حسنيييييييييين
( يومها قرر أن يجري في شبشبه البلاستيك)7 يناير 1991م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحراية : الجزء المنخفض من غرفة الفرن البلدي في الريف
(2) استغماية : أشهر لعبة جماعية في الريف المصري
(3) البلاستيك الأسود : نوع من البلاستيك الرديء المعاد تصنيعه من المخلفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق